مجتمع
مراكش .. عودة البهجة إلى جامع الفناء
10/10/2021 - 08:33
يونس الخراشيقالت سيدة تبيع الطواقي المصنوعة من الصوف، وهي تتلمظ، ثم يظهر فمها الفارغ من الأسنان، وقد وضعت الكمامة أسفله:"الحمدلله أننا صرنا الآن نرى بعضنا"، ثم طلبت الإذن كي تبحث عن النقود لتعيد بقية ثمن طاقيتين، وتمتمت:"الله يا ودي، فين كنا وفين ولينا".
وبينما كان هلال شهر ربيع الأول يعلو صومعة الكتبية، وضاء، في سماء مراكش، كانت الأضواء في ساحة جامع الفناء تعيد الحياة إلى كل شيء، وكأنها ترد تحية السماء، بتلك القناديل المزوقة على الأرض، والفوانيس المبثوثة على محلات العصير والأكل والحلزون المطبوخ، وفي السويقة، حيث تباع المصنوعات التقليدية من كل نوع.
"منذ ثلاثة أشهر تقريبا بدأنا نشعر بالتحول"، قال شاب يشتغل مساعدا لصاحب مطعم تقليدي بواجهة السويقة، ثم راح يشاكس الزبناء الكثيرين بالخارج، أغلبهم بكمامة في اليد، ويغير لغته في كل مرة عساه يتصيد فرنسيين أو إيطاليين، أو حتى صينين، أو غيرهم. أما حين يتعلق الأمر بالمغاربة، فيكتفي بالقول:"محل العائلة.. تفضل نعام سيدي.. تفضلي نعام لالة".
تعالت، بهدوء، وبطريقة تصاعدية، دقة مراكشية جميلة، ومطربة، من محل متنقل لبيع المأكولات التقليدية، وسط الساحة. وتقدم بائع للمصنوعات أمام محله الفارغ، ثم راح يصفق وفق تلك "الدقة" تصاعديا وتنازليا، مع حركة خفيفة، وابتسامة تطفو على محياه، غير عابئ بكثيرين يعبرون من أمامه، من كل الأعمار والأجناس. وغير بعيد، جلس صديقان أمام محل مغلق للمجوهرات، هما من يعمل به على الأرجح، يلعبان "الكارطة"، ويصيخان السمع إلى واصف مباراة المغرب وغينيا بيساو.
في كل الاتجاهات، سواء من حيث المدخل، الذي أوقفت على جانبيه كوتشيات، أو في الحديقة الصغيرة، حيث جلس سواقها، وغيرهم، وانتشر بائعو القهوة المعطرة، أو في المداخل الأخرى، حيث محلات متنوعة المعروضات، أو في السويقة، أو وسط الساحة تماما، أو في المقاهي والمطاعم، وأسطحها المطلة على الساحة، كانت كل العلامات تؤكد بأن ساحة جامع الفناء انبعثت من رمادها، وكأنها لم تمر بمرحلة صعبة، أثناء الجائحة.
"في واقع الأمر، منذ أشهر، بدأت الأمور تتحسن"، قال بائع آخر، وزاد موضحا:"لا أقول إن مراكش استعادت نشاطها كليا، غير أننا، ولله الحمد، خرجنا من عنق الزجاجة، وصرنا نعيش على وقع حركية ملحوظة. أي نعم، يحدث هذا في نهاية الأسبوع، ولنقل بداية من الجمعة وإلى غاية النصف الثاني من يوم الأحد"، ثم سكت برهة، وكأنه يتذكر صورة بعينها، وقال وقد تغيرت ملامح وجهه تماما:"في بقية الأيام، ينتهي كل شيء في وقت مبكر"، ثم زاد وهو يبتسم:"خلينا نقولو الحمدلله. فين كنا وفين ولينا. فقد كانت الساحة فعلا ساحة فناء في وقت من الأوقات، وهي الآن تستعيد الحياة. لواه، ماشي بحال، نقولو الصراحة. الحمدلله".
ومع أن بعض المقاعد كانت فارغة هنا وهناك، قد تتجاوز الربع أو النصف، وأحيانا الثلثين، فضلا عن أن تحركك وسط الساحة يبدو أكثر أريحية مما كان عليه في ما قبل الجائحة، بما يفيد أن العدد لا يقاس إلى ما سبق، غير أن الحيوية كانت ناطقة. وقد كان أحدهم يتجه، بنشاط، إلى الشباك الأوتوماتيكي ليسحب أموالا، فإذا به يعود خائبا، وهو يقول لرفيقه:"يا له من صف طويل في الانتظار. وأغلبه من الأجانب. سنضيع وقتنا هباء إذا بقينا ننتظر معهم". ودل ذلك، أيضا، على أن مراكش، وساحتها العريقة تحديدا، راحت تسترجع ثقتها في نفسها.
بائع عصير شاب كان يتحرك بخفة بين تشكيلة من الفواكه، أشبه بلوحة فنية رائعة، على وقع موسيقى غربية، أكد هو الآخر أن الحركة بدأت تدب في الساحة، غير أنه نبه إلى أنه يلزم بعض الوقت كي يتعود الناس على التوقيت الجديد لوقف الأنشطة. قال:"مع ذلك، فالناس ألفوا العودة إلى بيوتهم في وقت معين، وبالتالي فالجائحة ما زالت حاضرة بثقلها إلى حد ما. هي مسألة وقت، ليس إلا".
من التوك توك، الذي راح يخترق الساحة، ليأخذنا إلى الفندق، بدا أن شيئا مهما للغاية ينقص المكان. تلك الحلقات التي كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس. فهي لم تستعد كامل حيويتها ونشاطها. وتلك القليلة، التي كانت حاضرة، ومتفرقة هنا وهناك، لم تضج بالناس، ولم يتصاعد منها صوت يجذبك إليها، أو تصفيق، أو ضحك، أو قهقهات، أو صفير.
وحين راح ذلك التوك توك يبتعد عن المكان، ويتوغل على طول شارع محمد الخامس، نحو منطقة قريبة من محكمة الاستئناف، حيث يوجد الفندق، كانت الطريق تعج بالمركبات والدراجات، مثلما يعج الرصيفان بمن يتجهون إلى ساحة جامع الفناء، أو باتجاهها، ومن يذهبون في الاتجاه المعاكس. أما تلك الباحة المضاءة، أمام مسجد الكتبية، فكانت لما تزل هي الأخرى تحضن من يأتون إليها ليتنفسوا عبق التاريخ، أو ليتنفسوا هواء آخر، أو ربما سيجارة، أو لينتظروا حتى يأتي من ضربوا لهم موعدا عندها.
على باب الفندق، حيث توقفت سيارات غير كثيرة، لم يكن هناك حارس. وفي البهو الداخلي ظل عامل الاستقبال، وحامل الأمتعة، يركزان، وهما وحدهما، وعلى سجيتهما، بالصالون المغربي، مع مباراة المغرب وغينيا بيساو. أما المصعد فسرعان ما نزل، سريعا، إلى الطابق الأرضي، فارغا. وحين وصل بنا إلى الطابق الثالث، كان الممر إلى الغرفة هادئا إلى حد ما. وبإطلالة من النافذة، الكبيرة جدا، على الخارج، كانت مراكش تستعد للنوم. ولكن بعض الأصوات كانت ما تزال تصل، خفيفة، من الجانب الآخر حيث ساحة جامع الفناء، تدل على أنها استعادت بعض الحياة "ما بعد الجائحة"، وأن ما سيأتي أحسن بكثير.
مقالات ذات صلة
نمط الحياة
رياضة
نمط الحياة