إفريقيا
المغرب وجنوب إفريقيا.. سوء الفهم الكبير
21/01/2021 - 18:56
مهدي حبشيفي زخم الانتصارات الدبلوماسية المغربية في الصحراء، أصدرت الخارجية الجزائرية بياناً عقب لقاء وزير خارجيتها صبري بوقادوم بنظيرته الجنوب إفريقية، ناليدي باندور، بالعاصمة الجنوب إفريقية بريتوريا، يدعوان فيه إلى تمتيع من وصفته بـ"الشعب الصحراوي" بحق تقرير المصير.
الموقف الجزائري بات مفهوماً، ومسوغاته تكاد لا تخفى على متابع، فالصراع الجيو-استراتيجي هو قدر معظم الدول التي حكمت عليها الجغرافيا بالجوار واقتسام حدود برية. وبقدر ما يفسر مبدأ الجوار تحرش الجزائر المستمر بمغربية الصحراء، بقدر ما يطرح تساؤلات حول خلفيات الموقف الجنوب إفريقي، بالنظر للمسافة الكبيرة الفاصلة بين المغرب وتلك الدولة، والتي تفوق 11 ألف كيلومتر!
إيديولوجيا جامدة وجهل متبادل بالآخر
"ثمة سوء معرفة متبادل بين البلدين، فلكل طرف على الآخر مجموعة من الأفكار المسبقة والقيمية. الجنوب أفارقة يجهلون تاريخ المغرب ووضعه الجيوسياسي ومشاكله الجهوية، وحتى المغاربة يكادون لا يعرفون شيئاً عن منظومة التفكير لدى المجتمع الجنوب إفريقي، خصوصاً في شقها السياسي"، ذاك ما يراه خالد الشكراوي، الأستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية بالرباط والباحث بمركز السياسات للجنوب الجديد.
ويفصل الخبير في الأمر قائلاً: "يعتقد الجنوب أفارقة أن الصحراويين مجموعة إثنية مختلفة عن المغاربة، وفي مِخيالهم الجمعي فإن العلاقة بين المغربي والصحراوي هي نفس العلاقة بين الإنسان الأبيض والأسود". يكون لذلك أثر عميق على تصور الجنوب أفارقة لقضية الصحراء، لاسيما أن لتلك البلاد تاريخاً من الصراع ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) الذي ساد جنوب إفريقيا منذ استقلالها، بداية ستينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته، وقام على استعلاء العرق الأبيض وسيادته على حساب الأسود.
هذه النظرة المتوجسة من المغاربة، تتغذى، بحسب الشكراوي، على ما يروج في الخطاب الإعلامي المغربي، الذي ينفخ أحياناً في نار سوء الفهم هذا، حين يروّج لسعي المغرب إلى الزعامة القارية؛ "ضمن الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس خلال القمة الإفريقية 28 بتاريخ 31 يناير 2017، شدد على أن المغرب لا يبحث عن الريادة القارية. لكن الخطاب الإعلامي في المغرب يذهب إلى عكس ذلك، ولا ينفك يردد عبارة الزعامة القارية للمغرب... من الطبيعي إذن أن يتوجس الجنوب أفارقة من النفوذ المتنامي للمملكة ضمن محيطها القاري".
تدرك جنوب إفريقيا أنه "لا دخان بدون نار"، فكل التطورات الأخيرة تؤشر على تحول المغرب إلى قوة اقتصادية صاعدة في إفريقيا، "كما بات للمملكة من الإمكانيات ما يخول لها أن تصبح قوة سياسية مهمة في القارة"، يقول الشكراوي.
العداء للمغرب ليس سمة ملازمة لكامل المجتمع الجنوب إفريقي، حتى في شقه السياسي، بل تكمن المشكلة في إيديولوجيا حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي"، الحاكم في جنوب إفريقيا، "يعيش هذا الحزب على منطق يساري جامد ينهل مواقفه من منطق زمن الحرب الباردة"، يؤكد الخبير.
قوة اقتصادية ورمزية نضالية
لم تكن جنوب إفريقيا لتتوجس من تطلع المغرب إلى ربط علاقات متينة بمحيطه القاري، لولا أن ذلك المحيط يشكل بالنسبة لها مجال نفوذ حيوي. فجنوب إفريقيا تشكل، إلى جانب نيجيريا، القوة الاقتصادية الأولى في القارة، بحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي لعام 2018. كما بلغ الناتج الداخلي الخام لتلك البلاد عام 2017، 349,299 مليار دولار حسب المصدر ذاته.
وفي وثيقة صادرة عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، فإن جنوب إفريقيا تمثل قوة مُهيمنة على مجالها الجغرافي، فهي تنتج 66 في المائة من الناتج الخام لمجمل النصف الجنوبي للقارة، و22 في المائة تقريباً من الناتج الداخلي الخام للقارة السمراء برمتها. وذلك بفضل مواردها المنجمية الضخمة وقطاعها الفلاحي المتطور وفائق الإنتاجية، فضلاً عن قطاعين صناعي وخدماتي بمستويات تضاهي الدول المتقدمة.
قوة اقتصادية تعادل في موازين القوى الاستراتيجية نفوذاً ممتداً بحسب الشكراوي: "تسيطر جنوب إفريقيا على مجال شاسع جنوب القارة، ولها حضور قوي ضمن إفريقيا الشرقية والأنغلوفونية بشكل عام، ما يعني أنه ينبغي أن يحسب لها ألف حساب في أي توجه قاري للمغرب".
تستقوي جنوب إفريقيا كذلك بمكانتها الرمزية، باعتبار اسمها مرتبطاً بشخصية "نيلسون مانديلا" ذات الصيت والسمعة العالميين، كما أن البعد التاريخي يشهد لها بكونها الأمة التي ناضلت ضد نظام الفصل العنصري، وضد استعلاء عرق بشري على حساب آخر.
علاقات طيبة أفسدتها تناقضات داخل الحزب الحاكم
شكلُ العلاقات المغربية الجنوب إفريقية الراهن مثير للحيرة، بالنظر للكيفية التي تأسست بها تلك العلاقات. إذ يقول السفير المغربي السابق بجنوب إفريقيا، طلال الغفراني، في كلمة ألقاها خلال يوم دراسي من تنظيم المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية إن: "العلاقات بين البلدين تعود لبدايات الستينيات من القرن الماضي، حين زار نيلسون مانديلا المغرب، باعتبار أن المملكة كانت أرض استقبال لكل المناضلين في سبيل تحرر القارة الإفريقية".
وأضاف الدبلوماسي أن المغرب قدّم دعماً معنوياً ومادياً لحزب "المؤتمر الوطني الإفريقي"، اعترف بها أول رئيس ديمقراطي لجنوب إفريقيا في خطاب تنصيبه بتاريخ 1994.
واستقلت جنوب إفريقيا عن التاج البريطاني عام 1910 على شكل مملكة، ثم تحولت إلى جمهورية عام 1961. بيد أن الجنوب أفارقة يعتبرون يوم استقلالهم الحقيقي هو تاريخ إسدال الستار عن نظام الفصل العنصري، بداية تسعينيات القرن الماضي، وإجراء أول انتخابات ديمقراطية في البلاد عام 1994.
يتابع الغفراني سرد قصة العلاقات بين البلدين بالقول إنها شهدت دفعة كبيرة خلال بداية تسعينيات القرن العشرين، فقد رفع المغرب مستوى تمثيليته الدبلوماسية في بريتوريا (عاصمة جنوب إفريقيا الإدارية) إلى مستوى سفارة عام 1992، وتبادل قادة البلدين الزيارات، إذ زار المغرب كل من الرئيسين الجنوب إفريقيين نيلسون مانديلا وفريديريك دو كليرك، في حين زار وزراء الدولة والخارجية والنقل المغاربة تلك البلاد.
لم تشرع علاقات البلدين في التدهور إلا بداية الألفية الجديدة، بعدما ضاق المغرب ذرعاً بسلوك الحكومة الجنوب إفريقية المتناقض إزاء قضية الصحراء. والذي يرى الغفراني أنه لم يكن سوى ترجمة للصراع الداخلي الذي يعيش الحزب الحاكم في تلك البلاد على وقعه منذ حين، بين جناح براغماتي يدفع نحو التفكير في مصالح جنوب إفريقيا أولاً، وآخر راديكالي مازال متمسكاً بما يعتبره مبادئ راسخة للحزب.
اتخذت حكومة "المؤتمر الوطني الإفريقي" سنة 2004 قراراً مفاجئاً بالاعتراف بـ"الجمهورية الصحراوية" الوهمية، بعد سنوات من المناورات في هذا الاتجاه لم تفت الدبلوماسية المغربية، يبقى أشهرها ما سجل على وزيرة الخارجية الجنوب إفريقية آنذاك، نكوسازانا د.زوما، والتي كانت مرشحة لرئاسة لجنة الاتحاد الإفريقي، وتبنت قضية خصوم الوحدة الترابية للمغرب على نحوٍ فاضح.
الحل في أن "يتملك المغرب إفريقيته"
بما أن المشكلة نابعة أساساً من سوء فهم، فإن الحل يكمن في "طمأنة" جنوب إفريقيا إلى نوايا المغرب، يقول الشكراوي، وأن "يتملك المغرب إفريقيته"؛ "ينظر الجنوب أفارقة إلينا على أننا بيض، عرب ومسلمون... وهذه الهوية تسبغ علينا في أنظارهم اعتقاداً بأننا استعباديون كسائر العرق الأبيض. يجب أن نعمل على تغيير هذه النظرة المغلوطة".
وتأسف المختص في الشؤون الإفريقية إلى أن بعض الظواهر داخل المجتمع المغربي تكرس ذلك التصور، إذ ما زال بعض المغاربة يتبنون خطاباً استعلائياً تجاه إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بشكل عام، وحين يتحدثون عن مواطني تلك الدول يصفونهم بـ"الأفارقة"، كأن المغربي شيء والإفريقي شيء آخر مختلف.
"حتى على مستوى الخطاب الإعلامي، تسقط بعض وسائل الإعلام المغربية في عبارات موغلة في العنصرية، عن قصد أو عن غير قصد، كقول شائع على مستوى التعليق الرياضي: 'توجه المنتخب المغربي لملاقاة خصمه ضمن الأدغال الإفريقية'".
هذه التفاصيل تبين بحسب المتحدث أنه باستثناء المؤسسة الملكية ووزارة الخارجية، فإن المجتمع المغربي مازال بعيداً عن تملك إفريقيته... "بعض الوزارات ومعظم الأحزاب والجامعات المغربية ليس لها أي توجه إفريقي، ومازالت تتوق بأنظارها إلى أوروبا والعالم العربي حصراً".
أما في ما يخص الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، فيرى الخبير أن به تيارات مُتعددة، "يمكن للمغرب التعامل مع بعضها دون بعض، خصوصاً أن تناقضات شديدة تطبع العلاقات بين تيارات الحزب".
الاقتصاد مدخل آخر إلى الحل
وفقاً للسفير طلال الغفراني، فإن المغرب وجنوب إفريقيا يملكان فرصاً هائلة للتعاون الاقتصادي، ذلك أن كلا الدولتين تتبنيان مبدئي التعددية السياسية والليبرالية الاقتصادية. ويذهب الشكراوي أبعد من ذلك قائلاً إن ما يجهله الكثيرون هو أن جنوب إفريقيا هي الشريك الاقتصادي الأول للمغرب على مستوى القارة الإفريقية، "أكثر حتى من السنغال التي تعتبر من أصدقاء المملكة".
ويمكن أن تشكل منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية، التي دخلت حيز التنفيذ منذ بداية عام 2021، فرصة لرفع المبادلات التجارية والاستثمارات بين البلدين، لا سيما أن ربط علاقات اقتصادية متينة هو المدخل الرئيسي لتحسين العلاقات الثنائية بين أي دولتين.
ويرى الشكراوي أن "السوق الجنوب إفريقية تتيح فرصاً مهمة للمغرب، كما يمكن التفاهم معها أكثر حتى من الأسواق المغاربية، لأن للدولتين نفس المنظومات الاقتصادية الليبرالية، ولأن جنوب إفريقيا تتوفر على مؤسسات بنكية محترمة، وعلى بنية تحتية قوية جداً ومتطورة".
كما يرى أن بالإمكان أيضاً تعزيز العلاقات بين البلدين عبر ربط علاقات ثقافية، على المستوى السياحي، وعلى صعيد المهرجانات الفنية، وكذا عبر تبادل التكوين والطلبة على مستوى الجامعات المغربية. "بهذه الكيفية يتملك المغرب خبرة في التعاون مع جنوب إفريقيا، ويمكن الطلبة، وبالتالي الشعب الجنوب إفريقي، من التعرف على المغرب بوجهه الحقيقي وليس عبر أحكام القيمة".
مقالات ذات صلة
إفريقيا
اقتصاد
إفريقيا